الرئيسة \  رؤية  \  في مغزى سؤال أبي البقاء الرندي: أعندكمُ نبأ من أهل أندلس !؟

في مغزى سؤال أبي البقاء الرندي: أعندكمُ نبأ من أهل أندلس !؟

05.05.2016
زهير سالم




أربعة قرون استمر تساقط المدن والممالك الأندلسية ، من القرن السادس وحتى التاسع الهجري . كانت غرناطة الجميلة آخر الممالك الأندلسية سقوطا في الأعوام الأخيرة من القرن التاسع 898 هجرية ..
ومنذ القرن السادس بدأت المدن والممالك تتساقط ، تحت ضربات الأعداء متعددي الاتجاهات .
كان أبو البقاء الرندي معاصرا لتلك الحقبة المظلمة من تاريخ الأمة ، لم يكن شاعرا ولكنه كان عالما فقيها أديبا ، فتفجرت قريحته بقصيدته المشهورة :
لكل شيء إذا ما تم نقصان ... فلا يغر بطيب العيش إنسان
القصيدة الرائعة أدخلته محراب التاريخ من أوسع أبوابه . لن أقول معادا مكرورا في من أمر أو شأن هذه القصيدة ، وإنما سأتوقف منها عند رسالتين مهمتين لمن أراد من التاريخ عبرة .
الأولى ما سبق أن قدمته : أن الأندلس بكل ممالكه وإماراته لم يسقط فجأة ولا بالضربة الخاطفة أو القاضية ، كما قد يتصور البعض . ممالك الأندلس ظلت تتهاوى أربعة قرون ، لم يجد خلالها أصحاب الجلالة والفخامة والسمو والسعادة والفضيلة والغبطة فرصة لتدارك أمرهم ، والشعور بالخطر يتهددهم جميعا . فقد ظل كل واحد منه يهيم في بيدائه ، ويدور حول عرشه وذاته ، يأمل أن ينساه جزاره ، أو على الأقل أن يؤجله يوما أو بعض يوم . ظل هؤلاء جميعا يرتعون فيما يظنونه خصبا مع ا لراتعين، ويخوضون في مستنقعات الذلة مع الخائضين . في هذه القصيدة ينادي أبو البقاء رحمه الله تعالى على هؤلاء جميعا ، وهؤلاء اليوم ينتشرون على كل الجغرافيا العربية والمسلمة :
يا غافلا وله في الدهر موعظـة
إن كنت في سَنة فالدهر يقظـان
وماشيا مرحـا يلهيـه موطنـه
أبعدَ ( حمص ) تغر المرءَ أوطان
تلك المصيبة أنست ما تقدمهـا
وما لها مع طول الدهر نسـيان
حمص المذكورة في الأبيات هي حمص الأندلسية الثانية ( اشبيلية ) ، توأم حمص الشامية الأولى . ( أبعد حمص تغر المرء أوطان ؟! ) سؤال ينبغي أن يظل يرن في أذهان الوادعين الخاملين . سقطت حمص الأولى وسقطت بغداء في قرن واحد ، ثم سقطت بعدهما وسقطت وسقطت وها نحن اليوم تسقط بغداد ودمشق وصنعاء في عقد واحد من الزمان وما زال السكارى في سكرتهم يعمهون ..
 والسؤال الثاني من رائعة أبي البقاء ، والرائعة هنا بمعنى المروعة والمفزعة والمقرعة ، هو هذا السؤال الذي يوجهه لأبناء عصره وكأنها يعيش بيننا اليوم : أعندكم نبأ من أهل أندلس ؟!
هذا السؤال كما نقول في علم البلاغة استنكاري تقريعي لأهل البلادة ، من المنفصلين عن الواقع ، الذين لا يحسون بآلام الناس ، ولا يستشعرون مسئولياتهم تجاه ولاياتهم ، ولا يتحرك في قلوبهم شعور بحمية أو شفقة. هؤلاء الذين يظنون أن الرئاسة والسيادة مراكب للمتعة ، ومنابر للظهور ، وصهوات للأنا المتضخمة ، في نفوس ترى الصغير كبيرا ، والحقير عظيما ، فتظل تتشاغل به وتسعى إليه ، وتعكف عليه كما بنو إسرائيل على عجلهم الذهبي ..
أعندكم نبأ من أهل أندلس ...؟!
طرح أبو البقاء سؤاله ، وأجاب عليه : فقد سرى بحديث القوم ركبان ، وربما جاز له ان يطرح سؤاله : الإنكاري التهكمي الساخر في عصر كان يعتمد في تناقل الأخبار على الحمام الزاجل ، وعلى الرسم بالكلمات وليس على الصورة الحية الموثقة ترسم وجوه الأطفال تحت الأنقاض من دير العصافير في غوطة دمشق إلى حمص وحلب والرقة ودير الزور ..
يوبخهم أبو البقاء ، ويقرعهم وهو ينادي عليهم ، مذكرا بما هم عليه من بطر ومخيلة وغرور ونفج وادعاء ...
يا راكبيـن عتـاق الخيل ضامرة
كأنهـا فـي ظلال النقـع نيـران
وراتعيـن وراء البحـر في دعة
لهــم بأوطانهم عـز وسـلطان
أعندكم نبأ مـن من أهل أندلـس
فقد سـرى بحديث القوم ركبـان
كم يستغيث بنا المستضعفون وهم
قتلى و أسرى فما يهتـز إنسـان
إذا كانت تساؤلات أبي البقاء في عصر الحمام الزاجل إنكارا وتقريعا واستخفافا ، فكيف يمكن أن يقع موقع سؤال سائلنا : أعندكم نبأ عن إنسان حلب ، أو عمران حلب أو يوم حلب وغدها ...
أم أن حلب كما يعتقد كثير منكم تستحق ما ينزل بها وبأهلها ..
لندن : 27 / رجب / 1437
4 / 5 / 2016
----------------
*مدير مركز الشرق العربي
zuhair@asharqalarabi.org.uk